ما بعد شبرا-بنها الحر

ككثيرين من العاملين في القاهرة الكبرى – "مصر" في روايتنا نحن أبناء الأقاليم – القادمين من مختلف أنحاء الجمهورية بسبب مركزيتها، يبدأ يومنا من طرق زراعية، محاطة بالقرى والنجوع. نمر خلالها على عوالم وأناس نكاد ننسى وجودهم، كأنهم مشاهد جانبية وهامشية.
إذا كنا من "سعداء" الحظ، فقد نحظى بسيارة يتفق ركابها على وجهة واحدة، مباشرة، بلا توقفات: القاهرة. فيقرر السائق – بحسب رغبة الركاب – دفع بضع جنيهات زائدة، تعويضا عن "كارتة الطريق"، فوق الأجرة المتفق عليها، للمرور عبر طريق شبرا–بنها الحر، قبل أن ننتهي إلى الطريق الدائري، حيث يبدأ فلك العاصمة.
لا أكتب هنا لأناقش حال شبكة المواصلات – رغم أنها حكاية تستحق التأمل، خصوصا حين نرى هياكل الكباري الإسمنتية المعلقة – بل أكتب عما يحدث داخل هذا الفلك وخارجه. خارج الطريق الدائري، وخارج شبرا–بنها الحر، ثمة مصر أخرى؛ عوالم كاملة من المصريين، يعيشون في الرقعة الجغرافية ذاتها، لكنهم – في نظر كثير من سكان وحكام العاصمة – لا يُرَون. ولا يُلتفت إليهم.
نحن أمام حالة انفصال اجتماعي وطبقي، ليست جديدة تماما، لكنها اليوم أكثر حدة ووضوحا. هناك مجتمعات يعاد تشكيلها، وأخرى تدفع – بمنهجية صامتة ومعلنة – من هامش الهامش إلى العدم.
في "الجمهورية الجديدة" – تلك التي تُعلن على لافتات رقمية نمر بها قبل بوابات شبرا–بنها – لا مكان للآخر. الجمهورية تنتهي عند "الكارتة". بعدها تبدأ الجمهوريات القديمة؛ جمهوريات اللكنات المحلية، القروية منها تحديدا، حيث تنطق الكلمات بفتح وكسر وتشديد طبيعي.
وعلى الجانب الآخر، لم تعد العربية – بلكنتها القاهرية – هي اللغة الوحيدة أو الحصرية في "الجمهورية الجديدة". فبين أبناء بعض الطبقات، هناك انسحاب يومي من اللغة الأم، وينتج، في المقابل، خليط لغوي لا هو بالعربية، ولا تماما بالإنجليزية، بل شيء ثالث: لغة طبقية تعلن عن الانتماء، وترسم حدودا فاصلة للعالمين.
مع تدهور الأحوال الاقتصادية، بدأت المجتمعات القروية تتغير، وتعيد تشكيل أفكارها نفسها، بوتيرة سريعة وملحوظة. أحد أبرز ملامح هذا التحول كان ما طرأ داخل الأسر المنتمية إلى الطبقة المتوسطة، والتي وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في أدوار أبنائها وبناتها.
أصبح خروج الفتيات للعمل – سواء في وظائف إدارية داخل الشركات، أو في مؤسسات تقع خارج النطاق الجغرافي للقرى – أمرا طبيعيا، أو بالأحرى: مفروضا. وهو ما يمثل تحولا جذريا في المنظومة القيمية والاجتماعية لتلك المجتمعات، التي كانت – حتى وقت قريب – تعتبر عمل الفتاة خارج البيت خرقا للتقاليد، ومساسا صريحا بما يعرف بالكود الاجتماعي.
نحن نتحدث عن مجتمعات كانت ترى حتى التحاق الشاب بعمل في سن مبكرة – أي قبل الانتهاء من دراسته الجامعية – دليلا على الحاجة، وسببا للحرج الأسري والاجتماعي.
هذا التحول لم يكن نتيجة نضال اجتماعي، ولا نتاج سياسات تحررية، بل جاء ثمرة مباشرة، وقاسية، لخيارات سياسية–اقتصادية اتخذتها الدولة. دفعت هذه الخيارات المجتمعات إلى حافة التغير، كمحاولة للبقاء على السلم الاجتماعي.
حتى الآن، نحن نتحدث عن تحولات طرأت على الطبقة الوسطى؛ طبقات كانت تملك حدا أدنى من الأمان الاقتصادي والاجتماعي، يتيح لها مساحة – ولو نسبيا – للتأقلم وإعادة ترتيب الأدوار.
لكننا لم نتطرق بعد إلى الطبقات الأدنى على هذا السلم، حيث تنعدم رفاهية التأقلم، ويغيب خيار الاختيار من الأساس. حيث خروج الأبناء إلى العمل ليس كمرحلة مؤقتة، بل كضرورة مبكرة – من الجنسين – في حصاد المحاصيل، وأعمال الأرض، وخدمة المنازل، وكل ما يتطلبه بقاء الأسرة على قيد الحياة.
مع ذلك، يتشارك أبناء الطبقات الدنيا والوسطى شبكة البؤس ذاتها، وإن بدرجات متفاوتة. فكلاهما يجبر على القبول بأجور لا تتناسب مع متغيرات الوضع الاقتصادي، ولا تعكس الحد الأدنى، والأساسي من متطلبات الحياة الكريمة.
في مناطق الدلتا، تتدفق رؤوس أموال خليجية، لشراء قوة عمل رخيصة من أبناء هذه المجتمعات، بأجور بخسة، وفي بيئات عمل غير منظمة، لا تخضع لأي حماية تأمينية أو رقابة قانونية. في النهاية، تنظر الدولة ورؤوس الأموال لهم كعمالة هشة؛ تُستهلك بلا ضمانات، وتُستبدل بلا مساءلة او تعويضات، وتموت بلا صوت.
أيضا، من أبرز أشكال التحول الثقافي والاجتماعي التي طرأت مؤخرا على الريف المصري، ظاهرة تمدين القرى – محاكاة المدينة. تتحول القرى تدريجيا إلى أشباه مدن، تُحاكي الشكل الحضري في ملامحها الخارجية، دون أن تمتلك أي بنية أو خدمات اجتماعية تنموية حقيقية.
والمفارقة أن المدن المصرية – حتى "الجديدة" منها – نفسها تفتقر إلى هذه البنى التحتية والاجتماعية من الأصل.
يظهر ذلك جليا في انتشار النشاطات ذات الطابع الرأسمالي الاستهلاكي، في مقابل غياب تام لأي دعم بنيوي مؤسسي ملموس. لا توجد خدمات مجتمعية حتى بالحد الأدنى: لا شبكة مواصلات فعالة، لا صرف صحي آدمي – وفي بعض المناطق، لا صرف صحي على الإطلاق، لا رعاية صحية حقيقية، ولا بنية تعليمية – مجانية فعلية – قادرة على استيعاب الطلاب.
هكذا، تندمج القرى والمدن داخل شبكة واحدة من البؤس والقبح العام، يتشاركه الجميع: في الجمهوريات القديمة والجديدة على حد سواء.
ومع التحولات السياسية والعمرانية، ومع تبدل أنماط الاستهلاك، تغيرت الطقوس المجتمعية واختفت تدريجيا، أو أعيد إنتاجها في أشكال أخرى، مفرغة من معناها الأصلي. لم نعد نرى الأفراح الشعبية تنصب في قلب الشوارع، ولم تعد الموالد والاحتفالات الشعبية – أو حتى الدينية منها – تقام كما كانت.
لم تختف هذه الطقوس بفعل تآكل عفوي، بل بفعل سياسات مباشرة وممنهجة، سعت إلى تفكيك أي شكل من أشكال التكاتف الاجتماعي والشعبي، واستبداله بقوى السوق.
في النهاية، لا شيء يجسد هشاشة "ما وراء شبرا–بنها الحر"، أكثر من تلك المعديات المتهالكة، التي لا تزال تعمل بالحبل حتى اليوم. وسيلة عبور بدائية، لا يفصل بينك وبين الماء سوى لوح خشب أو قطعة حديد صدئة، وفي كثير من الأحيان… بدون حواجز.
ومع ذلك، فهي الوسيلة الوحيدة لعبور الترعة، والاقتراب من الطريق الزراعي، انتظارا لأي سيارة قد تمر، وتمنحك فرصة الوصول إلى الطريق الذي قيل لنا إنه "حر".
حر؟ مِمَّن
لا أحد يسأل.
لأن لا أحد سيجيب.
لكن، في النهاية، يظل الطريق حرًّا.